كتب : احمد معوض

الانتحار بحد ذاته يشكل أسطورة للبعض، بمعنى صعوبة تحقيقه، في حين يكون للبعض الآخر ملجأ أخيرا، أو ملاذا للتملص من فكي الحياة، أو ما تختزنه هذه الحياة، البعض يختار انتحاره بابتلاع الأدوية مثلا، أو الشنق، أو شق شريان يده، وإلى ما هنالك من أساليب، غير أن ما يبدو مشتركا بين كل تلك الأساليب هو انعدام طريق العودة، أو التراجع نحو الحياة مجددا فالمنتحر يختار عادة طريقة لا تتيح له التراجع عن قراره ..

إلا أنه عندما يمر من أمامك عبارة موت “سيلفيا بلاث” او انتحارها عليك أن تدرك وقتها أنه لم يكن انتحارا عاديا أو مجرد خبر مقروء يمر مرور الكرام، فطريقة الانتحار ذاتها جديدة ومبتكرة، نظرا لما سبقها من محاولات شتى فاشلة ، فكانت الأخيرة هي القاضية حين وضعت “سيلفيا بلاث” رأسها داخل فرن الغاز لتنهي حياتها، وعمرها لم يتجاوز الثلاثون إلا قليلا ..

 

“سيلفيا بلاث” هي شاعرة وروائية وكاتبة أمريكية ولدت في مدينة بوسطن بولاية ماساشوستش الأمريكية في 27 أكتوبر عام 1932 درست في كلية سميث وكلية نيونهام في جامعة كامبريدج، قبل ان تحصل على اشادة كشاعرة وكاتبة ، وأنهت حياتها في 11 فبراير عام 1963 ، أي وقتها كان عمرها يزيد تقريبا عن الثلاثون عاما بقليل ، قضت معظم فترات شبابها القصيرة تعاني من الاكتئاب ..

 

أوعز الكثير ممن عاصروها بأن هناك الكثير من الأسباب التي أدت إلى ذلك الاكتئاب ومن ثم إنهاء حياتها بهذه الطريقة البشعة إلا أن السبب الرئيسي في ذلك هو زوجها وزميلها الشاعر “تيد هيوز” الذي دفعها دفعا إلى الانتحار ..

 

قبل أن نسهب عن كيفية كونه السبب الرئيسي في انتحار “سيلفيا” ، نلقي قليلا من الضوء عن علاقتهما وزواجهما .. تعود البداية عند وصولها إلى لندن عام 1955 لتدرس في جامعة “كامبريدج” عدما حازت على منحة فولبرايت كاملة، وكانت وقتها تجسد صورة الإغراء الأميركي بالنسبة إلى الشبان البريطانيين، بشعرها المصفف بعناية وأحمر شفتيها وفساتينها الجديدة وحذائها الأحمر، كانت لها علاقات سريعة ببعض الشبان، إلى أن التقت بتيد هيوز الذي تصفه في إحدى رسائلها لوالدتها بأنـه (ضخم، رياضي، صوته أشبه بصوت ديلان توماس، يحفظ أفضل ما كتب شكسبير، بليك وييتس وجميع كتابي المفضلين. يرسم بشكل رائع، بورتريات ولوحات عن السحرة والحيوانات، كما يروي حكايات شيقة عن الأشباح والأساطير والأبطال الإرلنديين… هو مفلس تماماً، صادق ورائع)

 

مما لا شك في وصفها له أنها أحبته إلى حد الجنون، حتى أنها كتبت له قبل الزواج: «إن حدث لك أي مكروه سأقتل نفسي»، لذلك لم يكن سهلاً عليها تقبل خيانته ، لا سيما عندما جاء إلى منزلها ليصارحها بأن عشيقته حامل منه، مبدداً كل آمالها بالعودة إليه. في تلك الفترة، كتبت الكثير من القصائد القاتمة لتعبر عن كرهها له، كما أنجزت العديد من الدواوين، والمفارقة أنه كان وريثها الأول لأنها لم تترك أي وصية، فأصبحت تركتها الأدبية بين يديه وبات هو صاحب الحق الوحيد في نشر كل القصائد والرسائل بما فيها تلك التي تتحدث عنه بسوء .

 

يتبين من ذلك أن ما دفعها إلى الانتحار أو أن السبب الرئيسي هو حبها بجنون لزوجها “تيد هيوز” ، لذا كانت خيانته لها أمرا فاق قدرات احتمالها بكثير ، لكن ذلك لا يُخفي أيضا علاقتها بوالدتها التي دوما ما وصفتها بأنها ام جذابة لكنها عصبية ، وبالكاد ترى صدى عصبيتها تلك يتردد دوما في كل نوبة اكتئاب تعاني منها ، أيضا لا يمكن في خضم الحديث عن أسباب انتحار “سيلفيا بلاث” إغفال دور والدها “أوتو بلاث” في حياتها الذي توفي عام 1940 أي بعد أسبوع ونصف من عيد ميلادها الثامن، أزاء مضاعفات خطيرة بعد بتر رجله بسبب مرض السكري ، ثم أصبح مريضا بعد وقت قصير من وفاة صديق مقرب له بسرطان الرئة، وعند مقارنة أعراضه بأعراض صديقة أقتنع بأنه مصاب بسرطان الرئة أيضا ولم يسعى للعلاج حتى فوات الأوان ..

 

لا يزال الجدل يدور حول أحداث حياتها وكتاباتها حيث بدأت الكتابة في سن الثامنة حيث ظهرت لها قصيدة في مجلة “بوسطن ترافلر”، وفي جامعة سميث تخصصت في اللغة الإنجليزية وفازت بجميع الجوائز الكبرى في الكتابة والبحوث العلمية، وقامت بتحرير مجلة الجامعة “مادموزيل” وعند تخرجها فازت بجائزة جلاسكوك لكتاباتها: “المحبوبان” و”المتجول على البحر”، وفي وقت لاحق، كتبت لمجلة اسكواش ونشرت مجموعتها الأولى “العملاق وقصائد أخرى” في بريطانيا أواخر الستينيات، كانت بلاث على قائمة أصغر منافسة لكتاب الشعراء في جامعة ييل، وطبعت أعمالها في مجلة هاربر، ومجلة ذي سبيكتيتر وفي الملحق الأدبي لمجلة تايمز.

 

وكان لها عقد مع مجلة نيويوكر ومن هنا أنطلقت سمعتها، كما ينسب لها تقدم الشعر الاعترافي، ظهر ذلك في ديوانها المشهور: “العملاق” و”قصائد أخرى ، وفي عام 1982 أصبحت أول شاعرة تفوز بجائزة البوليتزر بعد وفاتها، عن ديوانها “القصائد المتجمعة”، وجائزة البوليترز مجموعة من الجوائز والمنح تقدمها سنويا جامعة كولومبيا بنيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية في مجالات الخدمة

 

العامة والصحافة والآداب والموسيقى، وتحظى هذه الجوائز التي مولت في الأساس بمنحة من رائد الصحافة الأمريكي جوزيف بوليتزر بتقدير كبير، وتمنح في شهر مايو من كل عام منذ عام 1917 .. كما كتبت “سيلفيا بلاث” أيضا “الناقوس الزجاجي” وهي رواية أشبه ما تكون بالسيرة الذاتية ونشرت قبل وفاتها بوقت قصير .

 

ربما كانت تدرك سيلفيا أنها سترحل باكراً، فاستغرقت في الكتابة «إلى حدّ الهوس»، وقد أكد ذلك المقربون منها واوعزوا ذلك أنه كان السبب في إنتاجها الغزير إذ تركت الكثير من الكتب والدواوين والروايات، حتى أنّها لم تتخلف عن كتابة يومياتها والمئات من الرسائل لنحو 140 شخصاً من أهلها وأصدقائها، معظمها موجهة إلى والدتها، والتي جمعها “بيتر شتاينبرغ وكارين كوكيل” خلال أعوام وقاما بنشرها ضمن كتاب عنوانه «رسائل سيلفيا بلاث» من 1500 صفحة .

 

قالت “سيلفيا بلاث” يوما ان (الموت حرفة وأنا أتقنها بشكل استثنائي) ، لذا لم تستطع أن تؤجل جنازتها لوقت طويل ، وقد أعدت طريقة موتها بدقة وكانت وقتها قد وصلت إلى الثلاثين من عمرها، وفي صباح يوم من شتاء عام 1963 اختارت أن تنهي حياتها مختنقة بفرن الغاز، وقد تركت طفلين من زوجها “تيد هيوز” الذي انفصلت عنه بعد فصول من الخيانة لم تستطع تحملها ، خاصة علاقته الأخيرة بعشيقته “آسيا ويفل” التي تزوجها ثم طلقها هي الأخرى والغريب في الأمر أن “آسيا” ماتت منتحرة هي الأخرى برفقة طفلها مما أطلق نحوه العشرات من السهام المسمومة واتهامه بأنه السبب في موتها ..